وداعاً لنظام التعليم التقليدي وأهلاً بعصر التعليم الجديد‎

 

الكاتب: الأستاذ الدكتور غالب الرفاعي

رئيس جامعة العين

نُشِرَ في: هارفارد بزنس ريفيو

https://hbrarabic.com/%D8%B9%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF/

---------------------

لقد شهد قطاع التعليم مع بداية عام 2020 تغيرات جوهرية بسبب ظهور جائحة كورونا "كوفيد-19"؛ إذ تأثر  أكثر من1.6 مليار طالب منذ بداية الجائحة بسبب تعطل العملية التعليمية، وهو ما يمثل أكثر من 91% من طلاب العالم، وقبل ظهور هذه الجائحة،  كانت المؤسسات التعليمية تتبع أنماطاً مختلفة من التعليم فالبعض منها كانت تنتهج النظام التعليمي التقليدي القائم على التعليم المباشر (وجهاً لوجه)، والبعض الآخر من هذه المؤسسات انتهجت المزج بين التعليم التقليدي والتعليم عن بعد، مع ميل معظمها إلى نظام التعليم التقليدي أكثر من التعليم عن بعد، وكان هناك بعض المؤسسات التعليمية محدودة العدد التي اتبعت نظام التعليم عن بعد بصورة كاملة، بسبب إيمانها بفعالية هذا النموذج التعليمي؛ حيث أشارت الدراسات المذكورة في المقال المنشور في "هارفارد بزنس ريفيو العربية" والذي بعنوان: استشراف مستقبل التعليم عن بعد في دول الخليج والمنطقة العربية إلى أن نسبة الاحتفاظ بالمعلومات لدى الطلبة تتراوح بين 25-60% في التعليم الافتراضي مقارنة ب 8-10% في التعليم الصفي.

 

التحديات المتفاوتة التي تواجه النظم التعليمية خلال جائحة كورونا

لا شك أن المؤسسات التعليمية التي كانت تنتهج نظام التعليم التقليدي قد واجهت تحديات صعبة في ظل هذه الجائحة، بسبب عدم توافر البنية التحتية التكنولوجية أو بسبب عدم جاهزيتها بدرجة كافية، ما فرض عليها استثمار مبالغ طائلة لتدعيم وتحديث جاهزية البنية التحتية التكنولوجية لديها. أما المؤسسات التعليمية التي كانت تجمع بين نظامي التعليم التقليدي والتعليم عن بعد فقد واجهتها بعض التحديات بدرجة أقل من تلك التي واجهت المؤسسات التقليدية، وكان عليها أيضاً أن تستثمر أموالاً في مجال تكنولوجيا التعليم، وأما بالنسبة للمؤسسات التعليمية التي كانت تعتمد نظام التعليم عن بعد بصفة كاملة فقد كانت مستعدة وجاهزة لمواجهة هذا التحدي (الجائحة).

إن التحديات والصعوبات التي فرضتها جائحة كورونا على المؤسسات التعليمية كانت متفاوتة من مؤسسة لأخرى، وذلك بحسب النظام التعليمي الذي كانت تنتهجه كل منها، وقد فرض ظهور هذه الجائحة على المؤسسات التعليمية التوجه نحو الاستثمار في مجالات البنية التحتية التكنولوجية، وتكنولوجيا التعليم، وتدريب الكوادر الأكاديمية والإدارية والطلبة من أجل تفعيل منصات التعليم عن بعد لديها. وقد عزز من هذا التوجه أن بعض هذه المؤسسات كانت تتجاهل الاستثمار في تكنولوجيا التعليم، ما جعلها أمام أمر واقع يجب أن تتعامل معه في ظل هذه الجائحة، لاسيما مع الاتجاه العالمي نحو تقديم المساعدة للقطاع التعليمي؛ إذ شهدنا أن كبار الشركات التقنية حول العالم مثل "أمازون" و"آبل" و"فيسبوك" و"جوجل" و"آي بي إم" و"مايكروسوفت" قد قدمت بالفعل العديد من المنصات لتيسير عملية التعليم عن بعد.

ومن الجدير بالذكر أن المؤسسات التعليمية قد واجهت في ظل التعليم عن بعد تحديات كبيرة تتعلق بالمشكلات المصاحبة لسرعة الإنترنت، ومدى توافر أجهزة حاسوب حديثة لدى الطلبة، ومدى كفاية تدريب أعضاء الهيئة التدريسية والإدارية والطلبة، ومدى جدية وانضباط الطلبة في أثناء المحاضرات. غير أن التحدي الأكبر الذي واجهته المؤسسات التعليمية في ظل التعليم عن بعد تمثل في آليات تقييم الطلبة، وما صاحب ذلك من مخالفات سلوكية لبعض الطلبة خلال الامتحانات الإلكترونية مثل محاولات الغش، واستعانة البعض منهم بالآخرين في مجال إنجاز المهام والتكليفات خارج القاعة الدراسية الافتراضية.

 

أهمية الاستثمار في مجال تكنولوجيا التعليم

في إطار كل ما سبق فإننا نطرح سؤالين في غاية الأهمية، وهما:

السؤال الأول: عند زوال جائحة كورونا، ما الذي يجب على المؤسسات التعليمية القيام به؟

 

إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب من المؤسسات التعليمية أن تستمر في ضخ استثمارات جديدة في مجال تكنولوجيا التعليم، وتدريب كوادرها الأكاديمية والإدارية إضافة إلى تدريب الطلبة وأن تستمر في الوقت ذاته - ولو بنسبة محدودة - في اتباع نظام "التعليم الهجين" القائم على الجمع بين نظامي التعليم وجهاً لوجه والتعليم عن بعد، وهذا ما قامت به "جامعة العين" في دولة الإمارات العربية المتحدة باعتمادها نظام "التعليم الهجين" للفصل الدراسي الأول من العام الأكاديمي 2020-2021.

ومع الأخذ بالاعتبار أن أية مؤسسة تعليمية تقرر العودة إلى نظام التعليم التقليدي بالكامل يعني أنها ستغرد خارج السرب، وهو ما أكدته "منظمة الصحة العالمية" إذ أشارت إلى احتمالية ظهور أوبئة جديدة في المستقبل، ما يستدعي أن تكون المؤسسات التعليمية جاهزة لمواجهة أية ظواهر وبائية قد تحدث في المستقبل بعد انتهاء جائحة "كوفيد-19"،؛ وستسهم هذه الجاهزية في الحد من المخاطر التي يمكن أن تواجهها المؤسسات التعليمية في ظل استمرار هذه الجائحة أو ظهور جوائح غيرها.

أما السؤال الثاني فهو حول مدى تسهيل استخدام التكنولوجيا المتطورة لعملية تقييم الطلبة، وهل ستساهم هذه التكنولوجيا في الحد من المخالفات السلوكية التي تحدث في أثناء الامتحانات؟

تتمثل الإجابة عن هذا السؤال في التأكيد على أن المؤسسات التعليمية قد بذلت أقصى جهد لديها في هذا المجال، غير أنه لا يزال هناك الكثير من الصعوبات التي تواجهها المؤسسات التعليمية وبصفة خاصة في مجال تقييم الطلبة وإنجاز الامتحانات على أكمل وجه.

 

استخدام التكنولوجيا الحديثة لمواجهة صعوبات العملية التعليمية

يمكن التغلب على هذه الصعوبات من خلال استخدام تكنولوجيا التعليم الحديثة في تطوير طرق وآليات تقييم الطلبة، فضلاً عن اتباع نظم متطورة للمراقبة الإلكترونية للطلبة في أثناء الامتحانات، وبهذا الصدد يمكن الاستفادة من تجارب المؤسسات التعليمية التي دمجت تقنيات تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية لديها عبر استخدام روبوتات الدردشة المختلطة التي تدار بواسطة الإنسان والآلة معاً والقائمة كلياً على الذكاء الاصطناعي من أجل دعم الطلاب والإجابة عن أسئلتهم، والتكامل مع أنظمة إدارة التعلم التي يتبعونها، وذلك وفقاً لما تحدث عنه كل من شون غالاغر، المدير التنفيذي في مركز مستقبل التعليم العالي واستراتيجية المواهب في "جامعة نورث إيسترن" (Northeastern University)، وجايسون بالمر، الشريك في شركة "نيو ماركتس فينتشر بارتنرز" (New Markets Venture Partners)، وهي شركة رأسمال مغامر (جريء) تركز على التعليم في مقالهما المنشور في "هارفارد بزنس ريفيو" بعنوان: الجامعات اضطرت للانتقال إلى التعليم الإلكتروني رغم أنه مصير كانت تتجنبه منذ زمن.

إن استخدام هذه التقنيات المتطورة لن يؤتي ثماره إلا في ظل وجود وعي عام وثقافة متجذرة لمواجهة الصعوبات التي تواجه العملية التعليمية كالمخالفات السلوكية المرتبطة بأعمال الامتحانات مثلاً، وتقع مسؤولية تنمية هذا الوعي وهذه الثقافة على عاتق الأسرة في مرحلة التنشئة الأولى، ثم تتحول المسؤولية إلى المدرسة خلال مراحل الدراسة المختلفة، ثم تنتقل مهمة تنمية هذه الثقافة لدى الطلبة إلى الجامعة ويجب أن تتظافر جهود هذه الجهات مجتمعة في خلق وتنمية ثقافة الاعتماد على الذات، وترسيخ قيم احترام تعليمات، ونظم الامتحانات، وقيم الأمانة العلمية، ولا ننسى في هذا المجال الدور الفعال الذي يمكن أن تساهم به المؤسسات الإعلامية في دعم ومساندة هذه الجهود.

وقد فرض ظهور جائحة "كوفيد-19" أيضاً على المؤسسات التعليمية وأعضاء هيئة التدريس تحدياً كبيراً يتعلق بطرق التدريس. إذ أصبح التعليم القائم على التلقين والحفظ لا يتلاءم مع المستجدات التي صاحبت اتباع نظام التعليم عن بعد في ظل هذه الجائحة، ولعلنا نجد فيما يدعم وجهة نظرنا التجارب التي انتهجتها بعض المؤسسات التعليمية في بعض الدول؛ حيث تخلت منذ فترة طويلة عن أسلوب التعليم القائم على التلقين والحفظ، لأنها أدركت أهمية اعتبار الطلبة محور العملية التعليمية، وبالتالي يتم التعليم من خلال تعزيز وإكساب الطلبة مهارات البحث وتقصي المعرفة، وجعل النظام التعليمي أكثر فعالية وتأثيراً في تنمية وتطوير المجتمعات، ولا يعتبر هذا الأمر حديث السمعة في المؤسسات التعليمية، إذ تم الحديث عنه منذ العام 1869 بواسطة تشارلز إليوت، الذي شغل منصب رئيس "جامعة هارفارد" طوال أربعين عاماً، في مقالته المؤثرة: "التعليم في صورته الجديدة" (The New Education) وفقاً لما تم الحديث عنه في المقال المنشور في "هارفارد بزنس ريفيو" بعنوان: "مستقبل التعليم الإلكتروني".

إن على المؤسسات التعليمية أن تضع مهمة تهيئة بيئة دراسية مثالية للطلبة على رأس أولوياتها، ولتحقيق هذا الأمر سيكون من المفيد الاستثمار في التطورات التقنية التي تخدم العملية التعليمية، وتذليل الصعوبات أمامها، من أجل الحفاظ على استمرارية العملية التعليمية وعدم انقطاع التعليم في غضون الأزمات المستقبلية.

 

سيحتاج التعليم في عصره الجديد إلى مراجعة لطرق الاختبار والتقييم، والاستعداد للواقع الجديد الذي ينبغي التعامل معه منذ الآن، والمؤسسات التعليمية التي ترغب بأن تكون جزءاً من المستقبل عليها الاستعداد برأيي لما يلي:

1- تأهيل وتدريب الكادر الإداري والتعليمي لما يناسب هذه المرحلة.

2- تعديل المناهج وإكسابها المرونة للتعديل السريع المتوافق مع التكنولوجيا وتسارع تطورها.

3- الاعتماد أكثر على منهج البحوث العلمية والمشاريع العملية لتقييم الطلبة، وقبل ذلك، لتأمين الكادر التعليمي الذي يستطيع القيام بهذه المهام العملية التي تربط الجامعات بالمجتمع.

4- التواصل مع الجهات التشريعية التي تنظم عملية التعليم لتأمين مناخ تنظيمي يناسب هذه النقلة النوعية.